الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: الطويل: وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: البسيط: الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ، والفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك: لا تُفْسِد حالك برأيك.الثالث: أن يُضمَّن أَلْقَى معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته، فيكون المفعولُ به في الحقيقة هو المجرور بالباء، تقديره: ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض، أي: طرحتُهُ على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] لأنَّ بها البَطشَ والحركة، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد: أن ألْقَى يتعدَّى بالباء أصلًا ك مَرَرْتُ بزيدٍ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه.والهمزة في أَلْقَى لِلْجعل على صفةٍ، نحو: أطْرَدْتُهُ، أي: جعلتُهُ طريدًا، الهمزة فيه: ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها، فمعنى ألقَيْتُ الشيْءَ: جَعَلْتُه لُقى، فهو فُعَلٌ بمعنى مَفْعُول؛ كما أن الطريد فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُول؛ كأنه قيل: لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة.والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الهلاكِ، يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكًا، وهَلاكًا، وهَلْكَاءَ، على وزن فعلاء، ومَهْلِكًا ومَهْلُكَةً، مثلَّث العين، وتَهْلُكَةً، وقال الزمخشري: ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك- يعني بتشديد اللامِ- فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلًا على شاذٍّ ودَعوى إبدال، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر، مصدرَ فَعَّل بالتشديد، ومصدرُه، إذا كان صحيحًا غيرَ مهموزٍ على تَفْعِيل وتَفْعِلَةٌ فيه شاذٌّ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار، فليس بشيء، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأولى أنْ يُقال: إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة.قال ابن عطيَّة: وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ، بكسر اللام، وهي تَفْعِلَةٌ، من هَلَّكَ بتشديد اللام وهذا يُقَوِّي قول الزمخشري.وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ تَهْلُكَةً لا نظير لها، وليس كثيرًا من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلًا عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه، ففرحثوا به، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً، ودليلًا قاطِعًا، وقالُوا: قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف بالفصاحة، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء، وتحدَّاهم بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وبِعَشْرِ سُوَرٍ وبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وقال في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها.والمشهور: أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَةُ: ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ: ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل: هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل: هي ما تضضُرُّ عاقبته.قوله: {وَأَحْسِنُوا} اختلفوا في اشتقاق المحْسِنِ، فقيل: مشتقٍّ من فعل الحسن، وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه، وعلى هذا التَّقْدِير فالضربُ، والقتلُ إذًا حَسُنَا، كان فاعلهما محسنًا.وقيل: مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسنًا؛ إلاَّ إذا كان فعله حسنًا، وإحسانًا معًا؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين.قال الأصَمُّ: أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ.وقيل: أحسنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته، والمقصود منه أن يكون، ذلك الإنفاق وسطًا من غير إسراف، ولا تقتير، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على الجميع. اهـ. باختصار.
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم: وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافًا بالبيت وسعيًا بين الصفا والمروة ووقوفًا بعرفة ونحرًا بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطًا ولا سمنًا أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردًا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتًا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في تاريخ العرب.وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل أورشليم وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلاّ هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.واتخذت النصارى زيارات كثيرة، حجًا، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة أورشليم، وكذا زيارة قبر ماربولس وقبر ماربطرْس برومة، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة عسقلان من بلاد السواحل الشامية، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبدُ بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشًا جرفها السيل: أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة.وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل زفس وللهنود حجوج كثيرة.والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها، وذِكُر الحج معها إدماج، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذٍ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلاّ على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.واصطلح المضَريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنًا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبًا منصل الأسنة ويرون العمرة في أشهر الحج فجورًا.وقوله: {لله} أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلاّ لله ولا العمرة إلاّ له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفًا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.ويجوز أن يكون التقييد بقوله: {لله} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلًا على الكعبة ووضعوا إسافًا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى. وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين. اهـ.سؤال: ما المراد بالإتمام في الآية الكريمة؟الجواب: في تفسير الإتمام في قوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وفيه وجوه أحدها: روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها: قال أبو مسلم: المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام، قال: ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتى يتم هذا الفرض، ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها: قال الأصم: إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة، وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال: الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الإحرام ثمانية الأول: في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة، ورد المظالم، وقضاء الديون، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع، ويرد ما عنده من الودائع، ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء، ويتصدق بشيء قبل خروجه، ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها، فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني: في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقًا صالحًا محبًا للخير، معينا عليه، إن نسي ذكره، وإن ذكر ساعده، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره، وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم، ويلتمس أدعيتهم، فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرًا، والسنة في الوداع أن يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث: في الخروج من الدار، فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون} [الكافرون: 1] وفي الثانية الإخلاص وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص، الرابع: إذا حصل على باب الدار قال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس: في الركوب، فإذا ركب الراحلة قال: بسم الله وبالله والله أكبر، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس: في النزول، والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل، ولا ينزل حتى يحمى النهار، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرًا السابع: إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار، فليقرأ آية الكرسي، وشهد الله، والاخلاص، والمعوذتين، ويقول: تحصنت بالله العظيم، واستعنت بالحي الذي لا يموت، الثامنة: مهما علا شرفا من الأرض في الطريق، فيستحب أن يكبر ثلاثًا التاسع: أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشر: أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال، ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات، يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى، فقوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة} كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني، فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعًا ملة إبراهيم حيث قال تعالى: {وَإِذ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].الوجه الرابع: في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} أن المراد: أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد، وقد بيناه بالدليل، وهذا التأويل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد يروى مرفوعًا عن أبي هريرة، وكان عمر يترك القران والتمتع، ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج، فإن الله تعالى يقول: {الحج أَشْهُرٌ معلومات} [البقرة: 197] وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: فرقوا بين حجكم وعمرتكم. اهـ.
|